كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجواب: لمن سأل عن هذا الباب أن يقال له إن الناس إذا أحيوا وبعثوا من قبورهم، فليست حالهم حالة واحدة ولا موقفهم ولا مقامهم واحدًا، ولكن لهم مواقف وأحوال واختلفت الأخبار عنهم لاختلاف مواقفهم وأحوالهم وجملة ذلك أنها خمسة أحوال: حال البعث من القبور، والثانية حال السوق إلى مواضع الحساب والثالثة حال المحاسبة، والرابعة حال السوق إذا دار الجزاء، والخامسة حال مقامهم في الدار التي يستقرون فيها.
فأما حال البعث من القبور: فإن الكفار يكونون كاملي الحواس والجوارح لقول الله تعالى: {يتعارفون بينهم} وقوله: {يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرًا} وقوله: {فإذا هم قيام ينظرون} وقوله: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين} إلى قوله: {ترجعون}.
والحالة الثانية: حال السوق إلى موضع الحساب وهم أيضًا في هذه الحال بحواس تامة لقوله عز وجل: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون} ومعنى فاهدوهم أي دلوهم ولا دلالة لأعمى أصم ولا سؤال لأبكم، فثبت بهذا أنهم يكونون بأبصار وأسماع وألسنة ناطقة.
والحالة الثالثة: وهي حالة المحاسبة وهم يكونون فيها أيضًا كاملي الحواس ليسمعوا ما يقال لهم ويقرأوا كتبهم الناطقة بأعمالهم وتشهد عليهم جوارحهم بسيئاتهم، فيسمعونها وقد أخبر الله تعالى أنهم يقولون {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} وأنهم يقولون لجلودهم {لم شهدتم علينا} وليشاهدوا أحوال القيامة وما كانوا مكذبين في الدنيا به من شدتها وتصرف الأحوال بالناس فيها.
وأما الحالة الرابعة: وهي السوق إلى جهنم فإنهم يسلبون فيها أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم لقوله تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا مأواهم جهنم} ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} إشارة إلى ما يشعرون به من سلب الأبصار والأسماع والمنطق.
والحالة الخامسة، حال الإقامة في النار. وهذه الحالة تنقسم إلى بدو ومآل. فبدوها أنهم إذا قطعوا المسافة التي بين موقف الحساب وشفير جهنم عميًا وبكمًا وصمًا إذلالًا لهم تمييزًا عن غيرهم، ثم ردت الحواس إليهم ليشاهدوا النار، وما أعد الله لهم فيها من العذاب ويعاينوا ملائكة العذاب وكل ما كانوا به مكذبين، فيستقرون في النار ناطقين سامعين مبصرين ولهذا قال الله تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} وقال: {لو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} وقال: {كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعًا قالت أخراهم لأولاهم} إلى قوله: {وقالت أولاهم لأخراهم} وقال: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء} وأخبر تعالى أنهم ينادون أهل الجنة فيقولون {أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله} وأن أهل الجنة ينادونهم {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا قالوا نعم} وأنهم يقولون {يا مالك ليقض علينا ربك} فيقول لهم {إنكم ماكثون} وأنهم يقولون لخزنة جهنم {ادعوا ربكم يخفف عنا يومًا من العذاب} فيقولون لهم {أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}. وأما العقبى والمال فإنهم إذا قالوا: {أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} فقال الله تعالى: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} وكتب عليهم الخلود بالمثل الذي يضرب لهم وهو أن يؤتى بكبش أملح ويسمى المكوت، ثم يذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادوا يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت سلبوا في ذلك الوقت أسماعهم، وقد يجوز أن يسلبوا الأبصار والكلام، لكن سلب السمع يقين، لأن الله تعالى يقول: {لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون} فإذا سلبوا الأسماع صاروا إلى الزفير والشهيق، ويحتمل أن تكون الحكمة في سلب الأسماع من قبل أنهم سمعوا نداء الرب سبحانه على ألسنة رسله فلم يجيبوه بل جحدوه، وكذبوا به بعد قيام الحجة عليهم بصحته، فلما كانت حجة الله عليهم في الدنيا الاستماع عاقبهم على كفرهم في الأخرى بسلب الأسماع يبين ذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: {وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} وقالوا {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} وإن قوم نوح عليه السلام كانوا يستغشون ثيابهم تسترا منه لئلا يروه ولا يسمعوا كلامه وقد أخبر الله تعالى عن الكفار في وقت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثله فقال: {ألا أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم} وإن سلبت أبصارهم فلأنهم أبصروا الغير فلم يعتبروا والنطق فلأنهم أوتوه فكفروا فهذا وجه الجمع بين الآيات على ما قاله علماؤنا، والله أعلم.
باب ما جاء في حشر الناس إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلًا وفي أول من يكسى منهم وفي أول ما يتكلم من الإنسان:
مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلًا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين ألا وإن أول الناس يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه يؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم} إلى قوله: {العزيز الحكيم} قال فيقال إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم». أخرجه البخاري والترمذي، عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال: «وأشار بيده إلى الشام فقال: هاهنا إلى هاهنا تحشرون ركبانًا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أنتم خيرها على الله وأكرمهم على الله، وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه» وفي رواية أخرى ذكرها ابن أبي شيبة «وإن أول ما يتكلم من الإنسان فخذه وكفه».
فصل: قوله غرلًا أي غير مختونين النقي الحواري وهو الدرمك من الدقيق، والعفر بياض ليس بخالص يضرب إلى الحمرة قليلًا، والفدام مصفاة الكوز والإبريق. قاله الليث. قال أبو عبيدة: يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم، فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق وقوله أول من يكسى إبراهيم فضيلة عظيمة لإبراهيم وخصوص له كما خص موسى عليه السلام بأن النبي صلى الله عليه وسلم يجده معلقًا بساق العرش مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض، ولا يلزم من هذا أن يكون أفضل منه مطلقًا، بل هو أفضل من وافى القيامة على ما يأتي بيانه في أحاديث الشفاعة والمقام المحمود إن شاء الله تعالى.
قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر في كتاب المفهم له: ويجوز أن يراد بالناس من عداه من الناس فلم يدخل تحت خطاب نفسه. والله أعلم.
قلت: هذا حسن لولا ما جاء منصوصًا خلافه، فقد روى ابن المبارك في رقائقه: أخبرنا سفيان، عن عمر بن قيس، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال: أول من يكسى خليل الله إبراهيم قبطيتين، ثم يكسى محمد صلى الله عليه وسلم حلة حبرة عن يمين العرش. ذكره البيهقي أيضًا.
وروى عباد بن كثير، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: إن المؤذنين والملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم يؤذن المؤذن ويلبي الملبي، وأول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم خليل الله، ثم محمد صلى الله عليه وسلم ثم النبيون والرسل عليهم السلام، ثم يكسى المؤذنون وتتلقاهم الملائكة على نجائب من نور أحمر أزمتها من زمرد أخضر رحالها من الذهب، ويشيعهم من قبورهم سبعون ألف ملك إلى المحشر. ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له.
وذكر أبو نعيم الحافظ من حديث الأسود وعلقمة وأبي وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم» الحديث وفيه: «فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام يقول اكسوا خليلي فيؤتى بربطتين بيضاوين فيلبسهما ثم يقعد مستقبل العرش، ثم أوتي بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه قيامًا لا يقومه أحد غيري يغبطني فيه الأولون والآخرون» وذكر الحديث.
وخرج البيهقي بإسناده في كتاب الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تحشرون حفاة عراة، وأول من يكسى من الجنة إبراهيم عليه السلام يكسى حلة من الجنة ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش، ويؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر، ثم أوتي بكرسي فيطرح لي على ساق العرش» وهذا نص بأن إبراهيم أول من يكسى، ثم نبينا بإخباره صلى الله عليه وسلم فطوبى ثم طوبى لمن كسي في ذلك الوقت من ثياب الجنة، فإنه من لبسه فقد لبس جبة تقيه مكاره الحشر وعرقه وحر الشمس وغير ذلك من أهواله.
فصل:
وتكلم العلماء في حكمة تقديم إبراهيم عليه السلام بالكسوة فروي أنه لم يكن في الأولين والآخرين لله عز وجل عبد أخوف من إبراهيم عليه السلام، فتعجل له كسوته أمانًا له ليطمئن قلبه، ويحتمل أن يكون ذلك لما جاء به الحديث من أنه أول من أمر بلبس السراويل إذا صلى مبالغة في التستر، وحفظًا لفرجه من أن يماس مصلاه ففعل ما أمر به فيجزى بذلك أن يكون أول من يستر يوم القيامة، ويحتمل أن يكون الذين ألقوه في النار جردوه ونزعوا عنه ثيابه على أعين الناس كما يفعل بمن يراد قتله، وكان ما أصابه من ذلك في ذات الله عز وجل فلما صبر واحتسب وتوكل على الله تعال دفع الله عنه شر النار في الدنيا والآخرة، وجزاه بذلك العرى أن جعله أول من يدفع عنه العرى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وهذا أحسنها، والله أعلم.
وإذا بدئ في الكسوة بإبراهيم وثنى بمحمد صلى الله عليه وسلم أوتي محمد بحلة لا يقوم لها البشر لينجبر التأخير بنفاسة الكسوة، فيكون كأنه كسي مع إبراهيم عليهما السلام. قاله الحليمي. وقوله «تجدون على أفواهكم الفدام»، الفدام: مصفاة الكوز والإبريق قاله الليث. قال أبو عبيد يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق. قال سفيان: وفدامهم أن يؤخذ على ألسنتهم وهذا مثل.
باب منه وبيان قوله تعالى: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}
مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلًا. قلت يا رسول الله: الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض».
الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحشرون حفاة عراة غرلًا فقالت امرأة: أيبصر بعضنا أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» قال حديث حسن صحيح.
فصل:
قلت: هذا الباب والذي قبله يدل على أن الناس يحشرون حفاة عراة غرلًا أي غير مختونين كما بدأنا أول خلق نعيده. قال العلماء: يحشر العبد غدًا وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد، فمن قطع منه عشو يرد في القيامة عليه حتى الختان.
وقد عارض هذا الباب ما روى أبو داود في سننه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لما حضرته الوفاة دعا بثياب جدد فلبسها وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الميت يبعث في ثيابه التي دفن فيها». قال أبو عمر بن عبد البر: وقد احتج بهذا الحديث من قال: إن الموتى يبعثون جملة على هيئاتهم. وحمله الأكثر من العلماء على الشهيد الذي أمر أن يزمل في ثيابه ويدفن فيها ولا يغسل عنه دمه ولا يغير عليه شيء من حاله بدليل حديث ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما. قالوا: ويحتمل أن يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهيد فتأوله على العموم، والله أعلم.
قلت: ومما يدل على قول الجماعة مما يواقف حديث عائشة وابن عباس قوله الحق: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} وقوله: {كما بدأكم تعودون} ولأن الملابس في الدنيا أموال ولا مال في الآخرة زالت الأملاك بالموت وبقيت الأموال في الدنيا وكل نفس يومئذ، فإنما يقيها المكاره ما وجب لها بحسن عملها أو رحمة مبتدأة من الله عليها. فأما الملابس فلا غنى فيها يومئذ إلا ما كان من لباس الجنة على ما تقدم في الباب قبل.